الدعاة إلى الله وأزمة التفاهم
الدعوة إلى الله أمانة عظيمة استودعها ربنا أولئك الدعاة الذين يمثلون صفوة
المجتمع الإسلامي ، وعندما يخل أولئك الدعاة وطلاب العلم بهذه المسؤولية ،
يكونون قد ارتكبوا جرماً عظيما في عدم المحافظة عليها، ولا شك أن الحفاظ
عليها يعني القيام بها كما أحبه ربنا ـ سبحانه ـ من بيان أحكامه ومنهجه
الذي ارتضاه لعباده، ومن لوازم هذا البيان وجود الألفة والتواصل والتناصح
بين الدعاة وطلاب العلم، والسعي الحثيث لمعالجة أمراض الأمة باختلاف
أنواعها العقدية والمنهجية والأخلاقية بالعلم والحكمة، ولعل أهم شيء في هذا
الباب معالجة ما في صدور بعض الدعاة من بغض وتنافر لبعض إخوانهم المسلمين،
إذ الطبيب لا يصلح أن يعالج غيره وهو مريض، والدعاة إلى الله من باب أولى.
فمن العجب العجاب وجود بعض الشخصيات المتعلمة التي تجمع بعض المحبين حولها
من الطلاب وغيرهم، ليقوي بذلك أزره في ذم أقرانه وإخوانه من طلاب العلم،
بحجة تصفية وتنقية المجتمعات من الشوائب والأدران ، باعتبار أنَّ مَن وافقه
على ما هو عليه فصفيٌ مختار، ومَنْ خالفه وصَدَقَهُ النصح فَدَرَنٌ يجب
إسقاطه وإزالته من الساحة ، حتى وإن كان أعلم منه أو من خيرة العلماء،
والأعجب من ذلك أن يجعل بينه وبين قرينه حجاباً يمنع من التواصل معه والنصح
له، وهذه بدعة جديدة ما علمناها عن سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ ،
وهنا مربط الفرس ، " حيث تظهر أزمة التفاهم بين العاملين في حقل الدعوة إلى
الله ".
أنا أتصور لو أن الوالد استعمل الشدة مع ولدٍ له، يبلغ من العمر خمسة عشر
سنة دون أن يحاوره أو يناقشه مكتفياً بمبدأ "اسمع ونفذ" وإلا ضربتك ، أنا
أتصور أن هذا الشاب سيظل يفكر كيف يفتك من العيش مع أبيه ؛ لأنه يشعر أنه
مجرد آلة تنفذ أوامر تتلقاها من والد لا يحق لنا أن نسميه مربياً، لأنه
بهذه الطريقة قد تسبب في تفكك هذه الأسرة الصغيرة التي تتكون من أبوين وشاب
وحيدٍ، أو معه إخوة يُعَدّون على الأصابع، فما بالكم لو أن هناك شخصاً
متعلماً يدعي أنه من أهل العلم ، ويقول للعلماء أو للأقران فضلا عن الناس :
" ما جئت به هو الحق ولا أنطق سواه، ومن خالف هذا الذي أقوله فهو محترق
يجب التحذير منه، وإسقاطه من حقل الدعوة".
إذن من هنا تبدأ أزمة التفاهم مع مَنْ يراهم المجتمع العامي أنهم صفوة
المجتمع وإبريزه الصافي، فداعية كهذا يرى غيره من أهل العلم لا يساوي
وزناً، جديرٌ في زعزعة قطيعٍ من أبناء هذه الأمة عن المبادئ السلفية الحية،
وهذا من الطيش الذي سببه واحد من أمرين : إما الغرور وإما سوء التلقي، ولا
يمكن أن أقول سببه الجهل ؛ لأنه تَقَمَّص بالعلم وأخذ عن بعض العلماء،
ربما تكون مادته العلمية ضعيفة ، لكنه بالجملة قد جالس بعض أهل العلم ،
وربما جالسهم سنوات ، فهو على منصة العلم، وعلينا معاشر الدعاة أن نعترف
بأصحاب المنصات ؛ لأن الواقع يكذبنا لو قلنا بأنه ليس من أهل العلم،
فالإنصاف يلزمنا أن نقول فلان عنده علم وطلاب، ولكن ليس حكيماً ؛ لسوء
التلقي الذي أوقعه في الغرور.
ولا عجب أن يوجد في مجتمعاتنا علماء تنقصهم الحكمة ، سواء كانوا صغاراً بلباس الكبار ، أو كانوا كباراً في السن والعلم.
والإنسان بطبيعة فطرته يحب الكمال في كل شيء ، لكن الأشخاص يتفاوتون في هذا
الباب ، فهناك شخصيات ضعيفة تبحث عن إثبات وجودها في المجتمع، فلا تجد إلا
أن تطرق باب الظهور في الساحة ، ولو على حساب أقرب الناس له، حتى وإن تعدى
الظهور بغيبة فلان من الناس، على حساب أن يظهر في الساحة، معرضاً عن أدب
النقد وحقوق أخوة الإسلام تحت ستار علم الجرح والتعديل.
وقد قلنا قديماً : ليس النقد مرفوضاً ، بل مطلوباً ممن يجيده على ضوء
الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وكم من الشخصيات تحت هذا الستار أضروا
بالأمة، ولم يقدموا لها سوى النفرة والتبديع وتضليلِ كثيرٍ من أبناء الحقل
الدعوي المبارك.
هؤلاء يشبهون من منظور ضيق في بعض العلامات أولئك الأقوام الذين يدَّعون في
كتاباتهم وخطبهم ومحاضراتهم أنهم أهل السنة والجماعة، وقد خرجوا عن منهج
الله ، وهم مبتدعة ضالون بإجماع أهل السنة قديماً وحديثاً، وذلك لتعطيلهم
في باب أسماء وصفات الباري جل وعلا، وهم يقولون : إنهم أهل السنة والجماعة،
بمعنى : ينثرون الرماد في وجوه أولي الأبصار ، "وأنى لهم التناوش من مكان
بعيد" ؟؟!!!
وعند المقارنة : ماذا قدم أولئك الدعاة الذين أزَّموا روح التواصل مع
إخوانهم الدعاة لعلاج أمراض الأمة سوى زيادة الأمراض في الساحة، لا شك أني
سأنثر كلمات سبقني إلى مثلها شيخ المتوجعين ، العالم الرباني بكر أبو زيد ـ
رحمه الله ـ ، الذي نثر الكثير من مثل ذلك ثم رحل إلى باريه، دون أن
يستفيد من كلماته الناصعة الناصحة سوى قلة قليلة من الدعاة، مع أنَّ كثيراً
من الدعاة سخَّرها في غير ما وضعت له، للتشفي من إخوانه الطاهرين.
ولكن مهما يكن من شيء فلا بد من البيان والإيضاح والسعي الحثيث لمناصحة
أولئك الدعاةـ وإن لم يلتفتوا إلى نصح الناصحين ـ في أن ينزلوا للساحة ،
ويقبلوا باب النصح واللين بالعلم والحكمة، فالكلٌّ راد ومردود، ولكن بالعلم
الصحيح، مع احترام أدب الحوار والرد، بحيث يتجلى فينا جميعاً قوله ـ
سبحانه ـ " وقولوا للناس حسناً " مع قيام ميزان العدل عند التصنيف، وبقاء
أخوة الدين وإن اختلفنا، طالما واتحد المنهج.
ولنا في سلفنا الصالح القدوة الحسنة، قال يونس الصدفي([1]) : ما رأيت أعقل
من الشافعي ، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال :
يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً ، وإنْ لم نتفق في مسألة "([2]).
ما أجملها من كلمات " ألا يستقيم أن نكون إخواناً ، وإنْ لم نتفق في مسألة ".
هذا هو المنهج الشرعي الأخلاقي السلفي الذي تغافل عنه كثير من أبناء
الإسلام ، وخصوصاً بعض المتعلمين الذي يرعون قطيعاً غفيراً من أبناء الأمة.
وأخيراً تبقى أزمات مجتمعنا الإسلامي قائمة ، طالما وأزمة التفاهم بين
الدعاة ظاهرة تشوبها كثير من المنغصات والأوجاع، فلا يستقيم الناس حتى
يكونوا على منهج مَنْ سبقهم من سلف هذه الأمة،ـ وهذا هو الحل الوحيد ـ ولكن
أكثر الناس لا يعقلون.
المصدر (
http://www.baidhani.com/modules.php?...owpage&pid=183 )
________________________________________
(1) يونس بن عبد الأعلى: عالم الديار المصرية، الإمام أبو موسى الصدفي
المصري الحافظ المقرىء الفقيه، مولده في آخر سنة سبعين ومائة هجرية.
(2) سِيَر أعلام النبلاء للذهبي (10/ 16)].